بدأت أولى الخطوات الجادة في إصلاح الأزهر في عهد الخديوي إسماعيل.
وكان إصلاحًا محدودًا اقتصر على تنظيم طريقة تُمكّن الطالب من نيل الشهادة العالمية.
وتكوين لجنة الامتحان وعدد أفرادها، وتحديد المواد التي يمتحن فيها الطالب، ثم خطا الأزهر في عهد الخديوي عباس حلمي خطوات واسعة على طريق الإصلاح.
وكان للإمام محمد عبده اليد الطُولَى في ذلك، وتوالى صدور القوانين التي تنظم الدراسة بالأزهر، وتطور مناهجه الدراسية.
وتحدد درجاته العلمية، وتقنن قبول التلاميذ، وكان من أظهر هذه القوانين ما صدر في عام (1348هـ الموافق 1930م) في عهد مشيخة الإمام محمد الأحمدي الظواهري.
المولد والنشأة:
في قرية "كفر الظواهري" التابعة لمحافظة الشرقية وُلد "محمد الأحمدي بن إبراهيم الظواهري" سنة (1295هـ الموافق 1878م).
وكان أبوه من خيرة علماء الأزهر، فعُنِيَ بتعليم ابنه، وتعهده بنفسه، وفي الوقت نفسه كان يتردد على حلقات العلم بالجامع الأزهر، ولم يكن يلتزم بدراسة كتاب محدد، أو يتقيد بحضور درس شيخ معين، باستثناء حلقات الإمام محمد عبده.
وعندما اطمأن الشيخ إلى ما حصّل، وأنه قادر على الوقوف أمام لجنة الامتحان قرر التقدم للامتحان وكان الامتحان شاقًا.
لا يجتازه إلا من بذل غاية جهده في القراءة والبحث ومعرفة دقائق العلم- وتتألف لجنة الممتحنين عادة من كبار علماء الأزهر، وهي تمطر الطالب بأسئلة تكشف عن حقيقة ما حصّل، وتنتقل من علم إلى آخر، وعلى الطالب النابغة أن يجيب على ذلك.
وشاء الله أن يمتحن الأحمدي الظواهري أمام الشيخ محمد عبده، الذي تقرر أن يرأس اللجنة بدلًا من الشيخ "سليم البشري" شيخ الجامع الأزهر، فتطرّق الخوف إلى قلب الطالب؛ لأنه يعلم ما بين الشيخ وأبيه من النفور والجفاء، وفتح الله على الطالب المجتهد وأحسن في العرض، وهو ما جعل الإمام يُثني عليه ويقول له: والله إنك لأعلم من أبيك، ولو كان عندي أرقى من الدرجة الأولى لأعطيتك إياها.
في معهد طنطا الديني:
ما كاد الشيخ الأحمدي ينال العالمية من الدرجة الأولى حتى رشحته مواهبه للتدريس بالقسم العالي بمعهد طنطا، وانتدبه شيخ الأزهر لهذه المهمة على الرغم من حداثة سنه، وجلال المعهد الذي كان يُعد أقدم المعاهد الأزهرية بالأقاليم، ويلي الأزهر في المكانة والمنزلة، ويمنح شهادة العالمية لطلبته مثل الأزهر.
وكان المعلم الشاب موهوبًا، فلفت الأنظار إليه، واتسعت حلقته العلمية، وأقبل الطلاب عليه لغزارة علمه، وجمال عرضه، وقدرته على الإقناع والإفهام، وألّف في هذه الفترة كتابًا بعنوان "العلم والعلماء" دعا فيه إلى الإصلاح، وانتقد طريقة التدريس بالأزهر.
وكان ينحو في دعوته منحى شيخه محمد عبده، وأثار الكتاب ضجة كبيرة، وامتعض منه الخديوي عباس حلمي، وأصدر الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر- وكان له موقف متعنت من حركة الإصلاح في الأزهر- أمرا بإحراق الكتاب.
وفي (رجب 1325هـ الموافق أغسطس 1907م) توفي إبراهيم الظواهري والد الأحمدي، وكان يشغل مشيخة معهد طنطا، التي تلي من الناحية الرسمية مشيخة الأزهر، وسمت نفس الأحمدي إلى أن يخلف والده في هذا المنصب، وأيده أعيان طنطا وكبراؤها، فكاتبوا الخديوي عباس حلمي يرجونه تنفيذ هذه الرغبة، لكن صغر سن الشيخ الذي لم يتجاوز الثلاثين وقف حائلًا دون تحقيق هذا الأمل.
وحين عرض عليه منصب وكالة المعهد تمهيدًا للمشيخة في الوقت المناسب، رفض الأحمدي وقال لأحمد شفيق باشا الذي نقل إليه هذا العرض: "إنني أشكر جناب الخديويي وأشكر سعادتكم، ولكني لا أزال على موقفي، فإما شيخًا فأقوم بالإصلاح، وإلا فسأبقى مدرسًا كما أنا".
وعاد الأحمدي الظواهري إلى القسم العالي بمعهد طنطا يدرس لطلبته المصادر الكبرى التي لا تُدرس إلا لطلبة العالمية في الأزهر، فقرأ على طلبته مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، والعقائد النسفية في التوحيد ودلائل الإعجاز لعبد القاهر في البلاغة، وصحيح البخاري، فانظر إلى صاحب هذا العقل الذي كان يتقن هذه العلوم، ويقوم بتدريسها من مصادرها وأمهاتها الكبيرة وهو في هذا العمر المبكر.
ولما خلا مكان شيخ معهد طنطا شغله الظواهري على الرغم من معارضة كثيرين من شيوخ الأزهر في (صفر 1332هـ الموافق يناير 1914م).
وفي عهده افتتح المبنى الجديد للمعهد، وحضر الخديوي حفل الافتتاح، وحاول الشيخ أن يجري إصلاحات عديدة في المناهج الدراسية ووسائل التدريس، لكنه كان مقيدًا بالحصول على موافقة المجلس الأعلى للأزهر...
ولما كان معظم أعضائه من المحافظين فإن جهوده لم تلق دعمًا منهم، واضطر الشيخ إلى الاعتماد على نفسه في تطوير الدراسة في حدود اختصاصاته، وأنشأ عدة جمعيات للطلاب في الخطابة واللغة والتوحيد، يبث من خلالها أفكاره الإصلاحية، وأنشأ مجلة للمعهد وأسهم بماله في تكوينها، فكانت لسان المعهد وتعبيرًا عن أنشطته الثقافية.
ولما تولّى الملك فؤاد عرش البلاد توقفت صلته بالأحمدي الظواهري، لكن الوشاة أوغروا صدره عليه، فتغير من ناحيته، واستحكم العداء بينهما، وتوالت الدسائس، وكان من نتيجتها إلغاء القسم العالي بمعهد طنطا؛ إنقاصًا لأهميته، وبالتالي أهمية شيخه، ثم صدر قرار بنقل الظواهري شيخًا لمعهد أسيوط، وكان معهدًا ابتدائيًا صغيرًا، ليحولوا بينه وبين المناصب العليا.
الدفاع عن الأزهر:
تجددت الدعوة إلى إصلاح الأزهر والنهوض به في عام (1344هـ الموافق 1925م)، وكان من بين الصيحات دعوة غريبة إلى جعل الأزهر تابعًا لوزارة المعارف وتكون لها السيطرة عليه، على أن يبقى لشيخه مظهره الديني ووضعه اللائق في الرسميات، وكان رأيًا خطيرًا هدامًا، يبغي إلغاء الأزهر وهدم مكانته التاريخية ومنزلته في العالم الإسلامي.
وكان للشيخ الظواهري موقف كريم؛ حيث ثار على هذا الرأي، ورأى فيه خطرًا داهمًا على الأزهر، فصدع برأيه قائلًا:
كيف نقر ضم الأزهر للمعارف.. في الوقت الذي ننادي فيه باستقلال الجامعة المصرية وبعدها عن نفوذ المعارف، اللهم إلا إذا كان وراء هذا الضم غرض خاف هو القضاء على الأزهر ونفوذ الأزهر، وبالتالي على النفوذ الديني في البلاد.؟!
ميلاد الجامعة الأزهرية:
تولى الشيخ الأحمدي الظواهري مشيخة الجامع الأزهر في (7 من جمادى الأولى 1348هـ الموافق 10 من أكتوبر 1929م) وتعلقت الآمال بالشيخ الجديد، الذي سبق وأعلن عن منهجه الإصلاحي من قديم في كتابه "العلم والعلماء".
وكان الإمام عند حسن الظن، فخطا خطوة موفقة في مجال إصلاح الأزهر، ولعلها أبرز هذه الخطوات لما ترتب عليها من نتائج، كان أبرزها ظهور الكليات الأزهرية التي صارت نواة الجامعة الأزهرية.
وتضمن قانون إصلاح الأزهر الذي صدر في عهده سنة (1349هـ الموافق 1930م) جعل الدراسة بالأزهر أربع سنوات للمرحلة الابتدائية، وخمس سنوات للمرحلة الثانوية، وألغى القسم العالي واستبدل به ثلاث كليات هي: (كلية أصول الدين - كلية الشريعة - كلية اللغة العربية) ومدة الدراسة بها أربع سنوات، يمنح الطالب بعدها شهادة العالمية.
وأنشأ القانون نظامًا للتخصص بعد مرحلة الدراسة بالكليات الثلاثة، على نوعين:
* تخصص في المهنة، ومدته عامان، ويشمل تخصص التدريس ويتبع كلية اللغة العربية، وتخصص للقضاء ويتبع كلية الشريعة، وتخصص الوعظ والإرشاد ويتبع كلية أصول الدين، ويمنح المتخرج شهادة العالمية مع إجازة التدريس أو القضاء أو الدعوة والإرشاد.
* وتخصص في المادة ومدته خمس سنوات، يتخصص الطالب في أي فرع من الفروع الآتية: الفقه والأصول، والتفسير والحديث، والتوحيد والمنطق، والتاريخ، والبلاغة والأدب، والنحو والصرف، ويمنح المتخرج في تخصص المادة شهادة العالمية من درجة أستاذ.
ونقل هذا القانون الطلاب من الدراسة بالمساجد إلى مبان متخصصة للتعليم، وتحول بنظام الحلقات الدراسية التي كانت تعقد بالأزهر إلى نظام الفصول والمحاضرات، وأصبحت كل كلية مسئولة عن التعليم.
وتتولى الإشراف على البحوث التي تتصل بعلومها، وأطلق على القسمين الابتدائي والثانوي اسم "المعاهد الدينية"، وكان هذا القانون خطوة حاسمة في سبيل القضاء على نظام الدراسة القديمة، وبداية ميلاد جامعة الأزهر.
مجلة الأزهر:
ولم يكن إصلاح الإمام مقصورًا على تنظيم الكليات وتعديل المناهج العلمية، بل كانت له أياد بيضاء، فسعى إلى إصدار مجلة ثقافية تتحدث باسم الأزهر، أطلق عليها في أول الأمر "نور الإسلام" ثم تغير اسمها إلى مجلة الأزهر، وصدرت في (غرة المحرم 1349هـ الموافق 29 من مايو 1930م)، وأسند رئاسة تحريرها إلى الشيخ "محمد الخضر حسين"، الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد.
ومن مآثره أنه أوفد بعثات من العلماء للدعوة إلى الإسلام ونشر مبادئه في الخارج، فبعث بوفد إلى الصين والحبشة لهذا الغرض.
استقالته من المشيخة:
لم يستطع الإمام أن يحقق كل ما يطمح إليه من وجوه الإصلاح التي دعا إليها في كتابه "العلم والعلماء" لاعتبارات سياسية، فاشتدت معارضة العلماء والطلاب له، وجابهوه بالعداء، وزاد من أوارها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تمر بها البلاد، ولم يجد خريجو الأزهر عملًا لائقًا، وعمل بعضهم دون أجر حتى يحفظ لنفسه حق التعيين حينما تواتيه الظروف...
وزاد الأمور سوءًا أن السلطات طلبت من الظواهري فصل مائتين من العلماء في ظل هذه الظروف، فاستجاب لهم وفصل بعضهم، وبلغت الأزمة مداها بفصل عدد من طلاب الأزهر الغاضبين من سياسته والثائرين عليه.
فلم يراعوا حرمة الشيخ وجلال منصبه، فجابهوه بالعداء السافر، وكانت التيارات الحزبية وراء اشتعال الموقف، ولم يستطع الشيخ أن يعمل في ظل هذه الظروف العدائية، فقدم استقالته في (23 من المحرم 1354هـ الموافق 26 من إبريل 1935م).
مكانة الشيخ:
كان الظواهري من تلاميذ الإمام محمد عبده، وممن ينتهج نهجه في التعليم، وكان له أثر في أكثر ما استحدث في الأزهر من منشآت وما تم فيه من إصلاح.
وكان صُلبًا فيما يعتقد أنه الحق، حريصًا على إقرار النظام وسيادة القانون، يرى بأن الهدوء والسكينة والنظام سبيل الأزهر إلى التقدم، وجمع إلى شدته تواضعًا وزهدًا في الدنيا، ناداه أحد العلماء بلقب الإمام الأكبر...
فقال له: ما أنا إلا واحد من المشايخ، وما أنا إلا عبد الله محمد الظواهري، ولست أعتقد أن في مركزي هذا أكبر شيخ في الأزهر، بل أعتقد أن الأكبر هو من كان عند الله أكرم، مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ولست أعد نفسي إلا خادمًا للأزهر وأبنائه، لا رئيسًا له كبيرًا عليه.
المصدر: موقع إسلام أون لاين